من بين عشرات جرائم الإرهاب في بغداد تستعاد ذكرى جريمة تفجير شارع المتنبي كل عام بوقع خاصٍ ما زال موضعه ساخناً في جسد ووجدان المدينة. قد لا تكون هذه الجريمة هي الأبشع بين الجرائم التي طالت البغداديين.. الجريمة هي الجريمة، لا تمييز في البشاعة. لكن بقيت جريمة الاعتداء على (المتنبي) تحتفظ ببريق أسود دامٍ يمر على ذاكرة بغداد كل عامٍ فيعتمل الألم بالغضب، ومعهما تستعاد المأساة. يحتفظ شارع المتنبي لنفسه، ويحتفظ له العراقيون، برمزية خاصة لأكثر من اعتبار.
إنه الشارع الذي ظل يحتفظ ببريق فجر بغداد الأول، حيث نهوضها الذهبي قبل قرون كواحدة من مدن الدنيا القليلة التي صنعت حضارة الإنسان على هذا الكوكب.
فجر بغداد لا يحيل إلى ترفها وتبغددها مباشرةً قبل أن يحيل إلى مدنيتها وقبل أن تحيل هذه المدنية إلى جوهر بغداد حيث الوراقين وكبار الموسوعيين وعظام الشعراء وحيث مجالس الشعر والفكر والفن والتصوف والزهد والعلم والسياسة.
إنها حضارة ثقافة وكتاب وحياة..
بهذا يحضر فجر بغداد، المدينة التي عاشت طفولتها بروحٍ أنضجها التطلعُ وارتقى بها نبوغها، فكانت مدينة كتب ومؤلفين وقراء، إنها أثينا عصرها، بهذا يحضر فجر بغداد في شارع المتنبي. تضيق مكتبات (المتنبي) في التسعينيات، التي بدت كما لو أنها واحد من غروبات المدينة، فتطفح الكتب إلى الشارع وتملأ أرصفته، قبل أن تهبط وتمتد بسطاتها إلى الشارع نفسه حيث يُخلي الإنسانُ مكانَه في الشارع إكراماً للكتاب وحاجةً إليه. تنأى المدينة عن فجرها ليظل شارع المتنبي وحده المحتفظ بتلك الروح التي تشدّه إلى فجر بغداد الأول. هذه واحدة من أهم رمزيات الشارع التي جعلت منه حاضراً باحترام وتوقير في وجدان كل بغدادي، سواء من المعنيين بالقراءة والثقافة أومن أمّييها. قد يختلف البغداديون، كما هم أبناء أية مدينة أخرى، في تعصبهم لأحيائهم وشوارعهم وأماكنهم التي يحبون في ضواحي بغداد وفي قلبها، لكن مما يوحد البغداديين كلهم هو ذلك التوقير الذي يحتفظ به شيوخ المدينة وشبانها وصبيانها وأطفالها لهذا الشارع البغدادي الجامِع، شارع المتنبي. كل بغدادي، وكل عراقي، يؤمن أن له شيئا ما في (المتنبي). إنه جامِع أشياء العراقيين كلهم؛ تتداخل الأشياء وتختلط وتتوحد اختلاطَ الكتب وتوحدَها على بسطة أيِّ كتبي في الشارع. لا هوية في تلك البسطة سوى هوية الكتاب، هوية الثقافة والمعرفة والجمال، حيث يتجاور على الرصيف في بسطة الكتب حسن البنا مع كارل ماركس، ومحمد باقر الصدر مع صادق جلال العظم، وبوذا مع نيتشه، وسافو مع رابعة العدوية.. إنها رفقة لا تتوقعها إلا في (المتنبي). هذا بعض من امتيازات بغداد التي أودعتها في متنبيها.
وهذا بعض دواعي أن تنكأ ذكرى الجريمة جرحَها كل عام.
مقالات اخرى للكاتب